اللبيبُ مَن تَغَافَلَ لا مَن غَفَل

اللبيبُ مَن تَغَافَلَ لا مَن غَفَل بقلم: الدكتور محمد حامد عليوة

حكمة بليغة في السلوك التربوي، وتعني: أنه يجب على الدعاة والمربين وأولياء الأمور ألا يقفوا طويلًا أمام بعض المواقف والسلوكيات التربوية البسيطة التي تصدر عن أولادهم وأتباعهم، وما عليهم إلا غض الطرف عنها وتغافلها، تغافلاً مقصودًا عن شكلها ومظهرها، لا غفلة عن آثارها ونتائجها، ولا إهمالًا لرصدها والتقويم المبكر لها.

وهذا المسلك التربوى مرغوب لسببين:
الأول: أن إغفالها مع الوعي الكامل بآثارها لن يضر شيئاً.
الثاني: أن الوقوف عندها وتفخيمها مع بساطتها، قد يبدد جهود المربي ويصرفه عما هو أولى وأهم.

وهذا المسلك التربوي لا يعني مطلقًا الغفلة عن المشكلات التربوية الصغيرة، لأن الغفلة عنها وعدم الاهتمام بها، وعلاجها مبكرًا، قد يؤدي إلى استفحالها وتشعبها، وبالتالي تجذّرها، وهو ما يتطلب جهودًا مضَاعفة لعلاجها.

قال الإمام أحمد – رحمه الله -: «تسعة أعشار العافية في التغافل، فما أجمله مع قريب وصديق. قال تعالى: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ)».
وقال الإمام الشافعي – رحمه الله -: وقال الشافعي – رحمه الله -:«الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل».
وقال الإمام بن الجوزي: «لا يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فإن الناس مجبولون على الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلة أو خطيئة تعب وأتعب».
وصدق من قال: «رحم الله من تغافل عن زلات غيره لأجل بقاء ود، ودوام محبة، وستر زلة».

فالتغافل عن الزلات مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه؛ يُد تكرماً وترفعا عن سفاسف الأمور. وليس دليلاً على غباء صاحبه أوسذاجته؛ بل هو العقل والحكمة؛ كما أخبر سيدنا معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – بقوله: «العقلُ مكيالٌ، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل».

أخى المربي: ألم تلمح شيئاً يدعوك للتغافل في قوله تعالى: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ)؟ وذلك أن رسول الله ﷺ لم يخبر السيدة حفصة بكل ما قالت؛ بل أخبرها ببعضه وأعرض عن بعضه، فلم يخبرها به ولم يعاتبها عليه؛ لحسن خلقه، وكريم نفسه. وهو ما يؤكد سلوك النبي ﷺ لخلق التغافل مع أزواجه، رضي الله عنهن جميعًا.

ألم تلمح شيئاً يدعوك للتحلي بخلق التغافل من خلال تعامل سيدنا يوسف مع إخوته؟ والذى توضحه هذه الآية: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُم).
نعم: إنه التغافل، سُنَّة الأنبياء، وأخلاق المرسلين.

رحمَ اللهُ من رأى جِدارَ الودِّ يريدُ أن ينقضَّ بكلمةٍ جارحةٍ فأقامه بالتغافل؛ حتى لا ينقطِعَ الوصلُ.

وختامًا: ما أحوجنا للتغافل
ما أحوجنا للتغافل: حتى تسهل عيشتنا، وتتيسرعشرتنا، وتخف الأحمال والأعباء والضغوط علينا. فمن يُحرمون التغافل، ويقفون عند كل خطأ ويتزمتون عند كل هفوة، ويتشبسون عن كل صغيرة وكبيره، فهولاء لا تستقيم حياتهم، وتزداد مشاكلهم، ويحل بهم النكد ونغص العيش. فقد ورد عن الإمام على بن أبي طالب – رضي الله عنه وكرم الله وجهه – أنه قال: «مَن لم يتغافل تنغصت عيشته». وقال الأعمش – رحمه الله – «التغافل يطفئ شرًا كثيرًا».

ما أحوجنا للتغافل: مع أزواجنا وأولادنا وطلابنا، وغض الطرف عن أخطائهم وهنّاتهم، خصوصًا ما يقع منها عفوياً ولم يكن مقصوداً أو متعمداً أو متكرراً. فتكفى الإشارة والتلميح عن المواجهة والتصريح، وذلك أنفع فى إستدامة العشرة وبقاء المودة، وأجدى فى رعايتهم وتربيتهم.

ما أحوجنا للتغافل: حتى لا ينفر الناس منا، وينفضون من حولنا، فأصحاب الدعوات والقائمين على تربية غيرهم، لابد لهم من التغافل عن الهفوات والزلات حتى يجمعوا القلوب حولهم، وليعلم المربي أنه ليس من الحكمة أن يُشعر طلابه ومريديه  أنه يعلم عنهم كل صغيرة وكبيرة، وأنه بحكم هذه المعرفة الدقيقة يحاسبهم ويراجعهم في صغير الأمر وكبيره؛ ويُحصي عليهم كل فعل يصدر عنهم، وهذا أسلوب غير تربوي له آثاره غير المرجوة، حيث يُضعف من شخصية المتربي، وقد يصرفه عن مداومة التربية، وقد يدفعه إلى الكذب والمداراة وعدم الوضوح. وينتهي الأمر بضياع هيبة المربي عند مريديه، وفقده لمحبتهم وودهم. وقد صدق من قال: «تناسَ مساوئ الإخوان تستدم ودّهم».

اللهم اجعلنا من المتغافلين عن زلات غيرنا، من أجل بقاء الود ودوام المحبة وستر الزلة، ولا تجعلنا يا مولانا من الغافلين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

————————–

About zadussaerin

صفحة تربوية: تمثل نافذة على فقه الدعوة والتربية، تسهم في إبراز معالم منهج الدعوة الوسطي، ونشر الفكر التربوي الشامل المنطلق من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، و إبراز جهود علماء الأمة ومفكريها في ميدان الدعوة والتربية الاسلامية.
هذا المنشور نشر في أخلاق وقيم تربوية. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق