تربيتُنا الشَاملة

تربيتُنا الشَاملة  –  د. محمد حامد عليوة

من الخصائص الكلية الثابتة لدعوة الإسلام (الشمول)، فالإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، وأحكام الإسلام تنتظم شؤون النّاس في الدنيا والآخرة. فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف. (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)) سورة الأنعام.

إنه الشمول الذي اتسمت به رسالة الإسلام، والتي عبر عنها بكل بلاغة وإيجاز الإمام حسن البنا حين وَصَّفَها بقوله: «رسالة امتدت طولًا حتى شملت آماد الزمن، وامتدت عرضًا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقًا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة».(1)

ولأن دعوة الإخوان المسلمين هي إمتداد دعوة الإسلام بشمولها، نجد الإمام البنا يؤكد على هذا الشمول في أكثر من موضع، فيقول: «كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية وأصبح كل مصلح غيور يجد فيها أمنيته والتقت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك أن الإخوان المسلمين دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية».(2) 

فلا تنحصر دعوتنا في جانب من جوانب الحياة، ولا تقتصر على ميدان من ميادين الإصلاح، فلا نحصرها في أعمال سياسية وصراعات حزبية ومنافسات انتخابية وإن كانت السياسة على مبادئ الإسلام من صميم فكرتنا. ولا نقصرها في أعمال اجتماعية وإغاثية وإن كانت أعمال البر وأفعال الخير من أهم واجباتنا. ولكنها دعوة شاملة تتناول مظاهر الحياة جميعًا، انطلقت بشمولها من شمول هذا الدين العظيم.

وإنطلاقاً من هذا الشمول في منهج الدعوة كان لا بد من الشمول في التربية على هذا المنهاج الشامل، فالتربية الشاملة نابعةٌ من شمول منهج الإسلام في إمداد الإنسان المسلم بكل جوانب الإصلاح اللازمة لصلاح حياته، والمساهمة في بناء شخصيته بناءً شاملاً متكاملاً، في جوانبها الأساسية، عقليًّا ووجدانًا وسلوكياً.

فالتربية الشاملة والتكوين المستمر هما عماد هذه الدعوة، وأهم مايُميزها عن غيرها من الدعوات. فقد تمكنت من خلال منهجها التربوي الشامل أن تُربي أجيالاً تحمل الدعوة وتتحرك بها، صالحة في نفسها مُصلحة لغيرها، تفهم الإسلام بشموله، وتربي عليه بشموله، وتتحرك به شاملاً بين الناس. 

وقفة مع التربية الشاملة للفرد

والمتأمل في مفردات منهج تربية الفرد في دعوة الإخوان المسلمين، يلمس هذا الشمول واضحاً، ففي رسالة التعاليم، يُحدد الإمام البنا الصفات العشر للفرد المسلم فيقول في مرتبة الفرد المسلم: «إصلاح نفسه حتى يكون: قوي الجسم – متين الخلق – مثقف الفكر – قادراً على الكسب – سليم العقيدة – صحيح العبادة – مجاهداً لنفسه – حريصاً على وقته – منظماً في شئونه – نافعاً لغيره، وذلك واجب كل أخ على حدته».(3)

ومن يُعمل النظر في هذه الصفات العشر؛ يُلاحظ ما يلي: 

1- شمول الصفات العشر لجميع جوانب وميادين التربية، مثل (التربية الإيمانية والعبادية – التربية الأخلاقية والسلوكية – التربية الثقافية والفكرية – التربية الاجتماعية – التربية السياسية – التربية الاقتصادية – التربية الجماعية التنظيمية)، وهذا الشمول يبرهن على وعي الإمام البنا وصلاحية المنهج الذي يدعو إليه في ميادين الإصلاح والتغيير.

2- رعاية الصفات العشر لكل مكونات الشخصية الإنسانية (العقل – القلب – الجوارح)، وشمولها لمجالات الأهداف التربوية (المعرفية – الوجدانية – المهارية). فنجد فيها الصفات التي تُعنى بالعقل كـ (مثقف الفكر)، ومنها ما يُعنى بالقلب كـ (سليم العقيدة – صحيح العبادة)، ومنها ما يُعنى بالجوارح والسلوك كـ (منظمًا في شئونه – نافعًا لغيره).

ترابط عجيب فى ميدان الشمول التربوي

* من معاني التربية والتزكية عند الإمام أبو حامد الغزالي  -رحمه الله-، أنها (علم – حال – عمل)، وذلك منذ ما يزيد على الف سنة، والعلم هنا مناطه العقل وما يرتبط به من معارف وأفكار، والحال مناطه القلب وما ترتبط به من مشاعر وعواطف، والعمل مناطه الجوارح وما يرتبط بها من سلوكيات ومهارات.

وهذه الثلاثية في المنهج التربوي، التى تحدث عنها الإمام أبو حامد الغزالي منذ ما يزيد على ألف سنة، هى نفس المحاور التى لا زالت نظريات التربية الحديثة تدور حوله، فيما يُعرف بمجالات الأهداف التربوية (المعرفية – الوجدانية – المهارية).
وإذا أضفنا إلى ذلك بعدا أخر وهو نظرة علم النفس للشخصية الإنسانية من خلال جوانبها الثلاثة (العقل – القلب – الجوارح)، لأدركنا أنه الشمول في التربية لجوانب بناء الشخصية الإنسانية، بمجالات أهدافها المعرفية والوجدانية والمهارية.

* وتأتى التربية عند الإخوان المسلمين لتؤكد على هذا الشمول، فنجد الإمام حسن البنا -رحمه الله- استهل منظومة أركان البيعة التي يتربى عليها الفرد بـ (الفهم -الإخلاص- العمل)، وهي نفس الثلاثية السابقة، التى ذكرها الإمام الغزالي وتسير عليها نظريات التربية وعلم النفس حديثاً.

فركن الفهم محله العقل وما يرتبط به من أهداف معرفية، وركن الإخلاص محله القلب وما يرتبط به من أهداف وجدانية، وركن العمل ومحله الجوارح وما يرتبط بها من أهداف مهارية وسلوكيه.

فأول أركان البيعة الثلاثة وبترتيبها ومضمونها تؤكد هذا الشمول والتتابع في المنهجية التربوية عند الإخوان المسلمين.

وبُعد آخر نلاحظه في فكر الإمام حسن البنا وتراثه الزاخر، ما يؤكد على هذا الشمول التربوي، فتجده – مثلاً – في الوصايا العشر المعروفة يُحدد لها الإطار الضابط من خلال شعارها الرائع الشامل: (اقرأ – تدبر – اعمل)، تأكيدًا على ثلاثية الشمول التربوي.
نعم، إنها تربيتنا الشاملة، وهذه بعض ملامحها.

———–
(1) من كلمات الشهيد حسن البنا في مقاله «من وحي حراء» بجريدة الإخوان المسلمون اليومية.
(2) رسالة المؤتمر الخامس.
(3) رسالة التعاليم

About zadussaerin

صفحة تربوية: تمثل نافذة على فقه الدعوة والتربية، تسهم في إبراز معالم منهج الدعوة الوسطي، ونشر الفكر التربوي الشامل المنطلق من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، و إبراز جهود علماء الأمة ومفكريها في ميدان الدعوة والتربية الاسلامية.
هذا المنشور نشر في التربية الدعوية. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق